﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا… ﴾


قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 114].

قوله: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ الواو: استئنافية، و”من”: اسم استفهام، ومعناه النفي، أي: لا أحد أظلم، ومجيء النفي بصيغة الاستفهام أبلغ في النفي؛ لما فيه من معنى التحدي، كأنه يقول: أيُّ أحد يكون أظلم من هذا؛ أي: لا يمكن أن يكون أحد أظلم منه.

و﴿ أَظْلَمُ ﴾ اسم تفضيل، أي: أشد ظلماً، والمعنى: لا أحد أشد ظلماً وجرماً. والظلم في اللغة: النقص، قال تعالى: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا… ﴾ [الكهف: 33] أي: ولم تنقص منه شيئاً، فالظلم: النقص والتفريط في طاعة الله تعالى بترك ما أمر الله به، أو ارتكاب ما نهى الله عنه، وهو أيضاً وضع الشيء في غير موضعه على سبيل العدوان.

﴿ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ﴾ أي: من الذي منع مساجد الله، ومساجد الله: الأماكن التي أقيمت للسجود لله عز وجل وعبادته، وسميت مساجد أخذاً من السجود الذي هو من أعظم أركان الصلاة، وفيه القرب من الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء”[1].

وفي إضافة “مساجد” إلى الله تشريف لها، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: “إن المساجد أحب البقاع إلى الله”[2].

﴿ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾ الجملة بدل من “مساجد”، فهي في محل نصب؛ لأن “مساجد” منصوب على أنه مفعول “منع”.

أي: أن يذكر فيها اسمه عز وجل بالصلاة وقراءة القرآن وأنواع الذكر والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وغير ذلك، كما قال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 36-37].

والمعنى: لا أحد أشد ظلماً وجرماً من الذي منع مساجد الله أن يذكر اسم الله فيها، وتقام فيها الصلاة وأنواع الطاعات.

﴿ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ﴾ معطوف على “منع” أي: وعمل واجتهد في خرابها، أي: في فسادها.

وخراب المساجد وفسادها نوعان: خراب وفساد حسي بهدمها وتدميرها وتقذيرها ونحو ذلك، ومنه قوله تعالى: ﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحشر: 2].

وخراب وفساد معنوي بمنع الذكر والصلاة والعبادة فيها، والتضييق على المصلين وأذيتهم.

قال السعدي[3]: “وهذا عام لكل من اتصف بهذه الصفة، فيدخل في ذلك أصحاب الفيل، وقريش حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها عام الحديبية، والنصارى حين أخربوا بيت المقدس، وغيرهم من أنواع الظلمة، الساعين في خرابها، محادة لله ومشاقة”.

﴿ أُولَئِكَ ﴾ الإشارة ترجع إلى الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعوا في خرابها، وأشار إليهم بإشارة البعيد “أولئك” تحقيراً لهم.

﴿ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ﴾ “ما”: نافية، واللام في “لهم” للاستحقاق، و”أن” والفعل بعدها في تأويل مصدر، أي: ما كان يحق لهم دخولها.
والضمير “الهاء” يعود إلى المساجد، و”إلا”: أداة حصر، “خائفين”: حال، أي: إلا حال كونهم خائفين.

والمعنى: وما كان لهم دخولها شرعاً وقدراً إلا خائفين عقوبة لهم، وفي هذا وعيد لهم، ووعد وبشارة للمؤمنين بأن الله سيظهرهم على المسجد الحرام، ويذل لهم المشركين حتى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم.

وقد أنجز الله هذا الوعد، ففتح مكة، ومكن لرسوله صلى الله عليه وسلم المؤمنين من البيت، ومنع المشركين من دخوله، ونهى المؤمنين أن يمكنوهم من دخول المسجد الحرام، كما قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا… ﴾ [التوبة: 28]، ونادى علي وأبو هريرة -رضي الله عنهما- سنة تسع بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما: “ألا لا يحج بعد العام مشرك”[4].

كما أهلك الله عز وجل أبرهة وأصحاب الفيل عن آخرهم حفاظاً على بيته العتيق، وسلط المؤمنين على النصارى فأخرجوهم من بيت المقدس حفاظاً على مسرى رسوله صلى الله عليه وسلم.

﴿ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ الجملة مستأنفة، أي: لهم في الدنيا ذل وفضيحة وعار وهوان، والجزاء من جنس العمل، فكما صدوا المؤمنين ومنعوهم عن المسجد الحرام، حرم الله عليهم دخوله ومنعهم منه.

ومن الخزي ما أصابهم يوم بدر من القتل الشنيع والأسر، وما نالهم يوم فتح مكة من خزي الانهزام وغير ذلك.

﴿ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وهو عذاب النار، وقدم الخبر “لهم” في الجملتين لتأكيد ما أعده لهم من الخزي في الدنيا، والعذاب العظيم في الآخرة.

وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث بُسْر بن أرطأة رضي الله عنه: “اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة”[5].
المصدر: «عون الرحمن في تفسير القرآن»
_______________________________________________
[1] أخرجه مسلم في الصلاة – ما يقال في الركوع والسجود (482)، وأبو داود في الصلاة (875)، والنسائي في التطبيق (1137)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[2] أخرجه مسلم في المساجد (67).

[3] في “تيسير الكريم الرحمن” (1 /127).

[4] أخرجه البخاري في الصلاة (369) – من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[5] أخرجه أحمد (4 /181) قال ابن كثير في “تفسيره” (1 /226) “وهذا حديث حسن، وليس هو في شيء من الكتب الستة، وليس لصحابيِّه وهو بُسْر بن أرطأة، ويقال: ابن أبي أرطأة حديث سواه، وسوى حديث: “لا تقطع الأيدي في الغزو”.

Design a site like this with WordPress.com
Get started